يفقد تهديد «سناب باك» جدواه مع إدراك طهران أن عودة العقوبات لن تغيّر واقعها، فيما تتحوّل أوروبا والغرب إلى خاسر سياسي وأخلاقي.
وبهذا، وضعت أوروبا سيفاً مُصلتاً على رقاب الإيرانيين، عنوانه الرئيسيّ إعادة فرض العقوبات الأممية التي عُلّقت بموجب الاتفاق النووي لعام 2015، مع ما تخلّفه من تداعيات، ليس على إيران فحسب، ولكن أيضاً على الأوروبيين، الذين أصبحوا، شأنهم شأن الأميركيين، يشرّعون عمل المؤسسات الدولية، حين يكون موافقاً لمصلحتهم. في المقابل، لا تبدو إيران مكبّلة اليدين تماماً، ذلك أن مَن استطاع التعايش مع أقصى الضغوط الأميركية، لن يجد ضيراً من الالتفاف على ما هو أقلّ منها، وإنْ كانت ستتسبّب في أضرار إضافية للاقتصاد المحلّي. على أن ما تقدّم يضع الجمهورية الإسلامية أمام تحدّي اختيار وجهتها المقبلة في السياسة الخارجية، والتي يمكن أن تكون الاستدارة التامّة نحو الشرق، وليس التكتيكية كما هو حاصل راهناً، وإنْ بشروط اللاتبعية المكلفة.
بعد طولِ شدٍّ وجذب، قرّرت الترويكا الأوروبية (بريطانيا، فرنسا وألمانيا)، يوم الـ28 من آب الماضي، تفعيل «آلية الزناد» (Snapbak)، التي نصّ عليها الاتفاق النووي لعام 2015، تحت عنوان «آلية فضّ النزاع»، محدّداً في البند الـ36 طريقة البتّ في الخلاف، وناصّاً في البند التالي (الـ37) على أنه في حالة عدم تسوية الخلاف، وإحالته على مجلس الأمن، يتعيّن على هذا الأخير، وفق ما هو متّبع، «التصويت على قرار لمواصلة إلغاء العقوبات. وفي حال عدم المصادقة على هذا القرار في غضون 30 يوماً من تاريخ التبليغ، تدخل القرارات السابقة لمجلس الأمن حيّز التنفيذ من جديد، إلّا إذا قرّر المجلس أمراً آخر».
وفيما أسهم القرار 2231 الصادر عن المجلس، في تدعيم «خطة العمل الشاملة المشتركة» (الاتفاق النووي)، تم التشديد في بندَيه الـ10 والـ11، على أهمية «آلية فضّ النزاع» بين الأعضاء، وما تعنيه من استمرار إلغاء العقوبات الأممية على إيران أو العودة المحتملة إليها.
وكانت إدارة دونالد ترامب الأولى قد حاولت، في عام 2020، استخدام الآلية، ولكنها قوبلت بمعارضة من سائر الأعضاء، الذين أكدوا أن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق لا يخوّلها تفعيل «سناب باك».
وبذلك، فشلت خطّة الإدارة الأميركية في حينه، وهُمّشت القضيّة للسنوات الأربع اللاحقة. لكنها وضعت على الطاولة مجدّداً، العام الماضي، عندما انعقدت أولى محادثات في هذا الخصوص، بين الديبلوماسيين الإيرانيين، ونظرائهم الأوروبيين في نيويورك، وتكررت لجولات عدّة في مدن مختلفة، وصولاً إلى إسطنبول وجنيف.
ووفقاً لمصدر ديبلوماسي كبير شارك منذ البداية في عملية التفاوض، فإن الأوروبيين وضعوا في إسطنبول ثلاثة شروط لتمديد آلية عودة العقوبات الأممية، لستة أشهر، هي: انطلاق المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة؛ تعاون طهران الكامل مع «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»؛ وتحديد وضع اليورانيوم المخصّب عند مستوى 60%. لكن إيران ردّت عليهم، بالقول إنها «لا تريد تمديد القرار 2231، ولا تعتبره خياراً مرجوّاً بالنسبة إليها، لذلك ليست هناك ضرورة لوضع شروط لكلّ شيء لا تحبّذه هي».
يجب اعتبار مسألة «سناب باك» قطعة من قطع أحجية أكبر
وفي ما يخصّ مطالب الترويكا، أكدت طهران أنها لا تمانع الدخول في مفاوضات مع واشنطن، بشرط أن تكون حقيقية ومنطقية. وعن التعاون مع الوكالة الدولية، قالت إن الأخيرة، ورغم مهاجمة منشآتها النووية (وهو الحدث الأول من نوعه على مستوى العالم)، لا تمتلك أيّ أجندة محدّدة في هذا الخصوص. أمّا لناحية اليورانيوم المخصب عند مستوى 60%، فقد أعلنت إيران أن تلك المسألة ستكون مطروحة للنقاش مع الأميركيين، ضمن الاتفاق المحتمل، وفي المرحلة الأخيرة، إذ «لا يمكن، الآن، في بداية المسار، حسْم الموضوع».
وهكذا، انتهت محادثات إسطنبول من دون التوصّل إلى نتيجة، فوصل الدور إلى محادثات جنيف. وهناك، لم يتمكّن الطرفان أيضاً من التوصّل إلى اتفاق، إذ، وكما يقول مصدر ديبلوماسي شارك في تلك المحادثات، «كلّما مرّ زمن أكثر وتبدلت الكلمات والتصريحات، كلّما اتّضح أكثر أن الطرف الآخر، قد اتّخذ قراره الحاسم بتفعيل آلية الزناد».
وخلال الزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، إلى الصين، ومشاركته في قمّة «منظمة شنغهاي للتعاون»، أصدر وزراء خارجية روسيا والصين وإيران بياناً مشتركاً أعلنوا فيه معارضتهم إجراءَ الدول الأوروبية الثلاث. كما تفيد الأنباء بأن موسكو في صدد تقديم مسودة قرار جديد، لتمديد الآلية لستة أشهر، علماً أن تبنّي هكذا قرار يحتاج إلى تسعة أصوات موافقة من أصل 15 عضواً في مجلس الأمن الدولي، على ألّا يستخدم الأعضاء الدائمون «الفيتو» ضدّه. ويسجَّل الآن، نوع من الاصطفافات العلنية والخفية في هذا الخصوص بين إيران ومنافسيها الغربيين، الذين يريدون جمع سبعة أصوات ممتنعة، لسحب مشروع القرار الروسي، وبالتالي الاستغناء عن استخدام «الفيتو».
وفي إيران، ثمة رؤيتان تجاه هذا الملف: الأولى، يعتقد أصحابها أن هناك ضرورة للحيلولة دون عودة العقوبات، ذلك أن وضع القرارات السابقة موضع التطبيق، سيُصعّب الأمر على إيران كثيراً، فيبقى الخيار الأفضل، من وجهة نظرهم، هو «التمديد». في المقابل، يرى الفريق الآخر أن عودة العقوبات الأممية لن تترك أثراً خاصاً وجوهرياً على الواقع الاقتصادي في إيران، نظراً إلى أن العقوبات الأميركية الشديدة وتلك الثانوية سارية أصلاً، وهي أدّت إلى احتجاز الاقتصاد والرأي العام الإيرانيَّين رهينةً، وستكون لها مضار كثيرة على البلاد على المدى المتوسط. أما القول إن تفعيل «آلية الزناد» وعودة العقوبات سيوفّران الذريعة ويمهّدان لهجوم إسرائيلي ثانٍ، فيحاجج إزاءه هؤلاء بأن حرب الأيام الـ12 وقعت عندما كانت إيران في عزّ مفاوضاتها مع أميركا.
على أيّ حال، تبدو مسألة «سناب باك» قطعة من قطع أحجية أكبر؛ خصوصاً أن حرب الـ12 يوماً غيّرت المعادلات، وفرضت على إيران النظر إلى الأمور من منظار الأمن القومي. وبالتالي، إن أهمّ سؤال يطرح في هذا الوقت: هل الحرب الثانية على الأبواب؟ ليست الإجابة سهلة، ولكن الأكيد أن الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي يشكّلان أحد العوامل الأساسية والحاسمة بالنسبة إلى إيران، في وقتٍ يراهن فيه الغربيون على «سناب باك» كعامل لزرع الفرقة وبثّ الخلافات في الداخل الإيراني.
وهكذا، تصبح «آلية الزناد» كسيف ديموقليس، يتمتّع بقيمة طالما ظلّ مصلتاً على رقبة إيران، وتشعر به كتهديد؛ أما إن هوى إلى الأسفل، وتبيّن أنه ليس بماضٍ وقاطع، فإنه يفقد مفعوله. ويبدو أن الغرب على دراية بهذا الأمر، ويرى أن الحصول على تنازلات من إيران مقابل التمديد، هو الخيار الأمثل بالنسبة إليه.
رئيس تحرير صحيفة
«طهران تایمز»

